الثلاثاء، مارس 11، 2008

إنزلنا الحديد : مقدمة


مقدمة

أنتشرت في العقدين الماضيين ظاهرة "الأعجاز" العلمي القرآني على نطاق واسع ، حتى أصبحت أكثر نتاج الفكر الإسلامي الغيبي رواجا بين عامة الناس. ويقوم عماد هذه الصناعة على استغلال العاملين بها لجهل الجمهور المسلم وتعطشه النفسي لسد الثغرة العلمية الكبيرة التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية قياسا بمعظم شعوب الأرض. وينقسم العاملين بهذه الحرفة إلى قسم يتخذها طريقا للعيش والكسب المادي وطريقا للشهرة، وأشهرأمثلة على ذلك الدكتور زغلول النجار، والدكتور عبد الباسط محمد السيد. أما القسم الثاني ، فهم من المثاليين المسلمين والذين يحاولوا أن يجاهدوا بعلمهم لما يرون فيه إعلاء لكلمة الإسلام ومنهم ، على سبيل المثال ، الدكتور محمد صالح النواوي. وبين الفئتين تجد الأغلبية من العلماء المسلمين الصامتين خوفا من القمع الإسلامي، والذين يشاركون بصمتهم على تهافت الإعجازيين في إيقاع العرب والمسلمين في أخطر عصر تخلف علمي في تاريخهم ، وفي فترة زمنية تمثل أحرج المنعطفات في هذا التاريخ.

ومن المهم أن نؤكد هنا أن التصدي لهذا النوع من الشعوذة الفكرية يجب أن يكون المسؤولية الأولى للعلماء المسلمين الملتزمين بدينهم وبحرفتهم العلمية، إلا أنهم للأسف في غالبيتهم يفضلون الصمت ، وحتى التظاهر بالموافقة في بعض الحالات . في أغلب الأحيان يكون الباعث لصمتهم الخوف من الإضطهاد الفكري الإسلامي والذي يواجهه كل من يجرؤ الخروج عن التيار الذي تفرضه المؤسسات الإسلامية المتواطئة مع أنظمة الحكم المتخلفة. والمشكلة التي يواجهها العلماء المسلمون في التصدي لهذا الفكر ، هي أن دعاة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة نجحوا في نشره وترسيخه في عقول العامة حتى أصبح يبدو للأكثرية وكأنه من عقائد الإسلام الإساسية ، وبهذا يخشى المعارض للفكر الإعجازي أن يظهر وكأنه معارض للدين الإسلامي.

سنحاول في هذا المقال التعرض لظاهرة الإعجاز عن طريق نقد أحد أشهر إعجازيات المسلمين وأكثرها انتشارا (نجاحا؟) على المستوى الشعبي وهي "معجزة إنزال الحديد". وسنبدأ المقال بعرض موجز للأطار العام الذي يعمل به الإعجازيون المسلمون ، ثم نلخص الإدعاءات الأساسية لمعجزة تنزيل الحديد ، وبعد ذلك سنقوم بتفنيد الإعجاز المزعوم.

يتوجب علينا أولا أن نوضح الدافع خلف محاولتنا في التصدي لظاهرة الإعجاز. فبالرغم من أن الفكر الغيبي منتشر بحدود متفاوتة بين كل شعوب الأرض، بما فيه ظاهرة الأعجاز العلمي الذي يمارسها أيضا المسيحيون واليهود، إلا أن الشعبية الواسعة في أوساط المسلمين لهذه الظاهرة ، ونموها على حساب بناء نهضة علمية حقيقية ، ينذر بخطر كبير على مستقبل وأمانة الفكر للأجيال القادمة وخصوصا طمس تقاليد العلم التجريبي بين أفرادها وتسميم المناخ النقدي المناسب لنشر هذا العلم ، وتمكين الأجيال القادمة من تسخير العلم لحل مشاكلهم ، ولبناء مستقبل أفضل لأمتهم ، ومن المساهمة في النهضة العلمية والحضارية على الأرض.

بالمقارنة مع المسلمين، تمكنت المجتمعات الديموقراطية المتقدمه من محاصرة الإعجاز العلمي في أقلية من أفرادها وتهميش الدور الذي يلعبه في الوعي العام لدى شعوبها. وقد نتج هذا النجاح بطريقة تلقائية سببها فصل العلم عن الدين كناتج من محصلات فصل الدولة عن الدين ، مما أدى إلى تعريض الفكر الغيبي إلى النقد العلمي والمنطقي الحاسم والغير مساوم ، أما في المجتمع الإسلامي، فإن الدمج بين الدولة والدين، قد أدى تاريخيا إلى جعل العلم التجريبي ملحقا للفكر الغيبي وأداة له ، وبحيث تكون الاولوية للفكر الغيبي وبالتالي تقييد الفكر العلمي التجريبي الحديث بالمسلمات الإسلامية ، ومشاركة السلطة ، خصوصا مؤسساتها الإعلامية ، في نشرهذا الفكر بين الناس وفي قمع الفكر الناقد له.

ومن صلب هذا الموضوع ، من الضروري أن نذكر هنا أن الكثير من الخلط بين الفكر الغيبي و"الفكر العلمي الحديث" في وعي أمتنا ووجدانها يقوم على استغلال غياب كلمة دقيقة في لغتنا العربية للدلالة على "العلم" التجريبي الحديث وبحيث تكون مرادفة لكلمة "science" الإنكليزية. فلكلمة "علم" في الخطاب العربي الإسلامي معنى غلب عليها عبر القرون بدئا بالقرآن ثم ثم تطور أثناء النشاط الفكري الذي صحب تدوين الحديث والسيرة ومختلف فنون اللغة العربية إلى "علم" الكلام. في إحياء علوم الدين يصنف أبوحامد الغزالي مختلف فروع "العلوم" وينتهي بتصنيف "العلوم" المهنية مثل الحساب والطب والطبيعة بأنها "فرض كفاية"، أي أنه ليس على كل مسلم أن يتخصص فيها ، بينما يصنف "العلوم" الدينية كفرض عين على كل مسلم. وينتج من هذا التصنيف أن مفهوم كلمة "علم" في التراث الفكري الإسلامي، هو في الغالب المعرفة الإخبارية الدينية بتفرعاتها، ويشمل هذا المفهوم علوم اللغة المتعلقة أساسا بخدمة الدين. ,والطابع الغالب على هذه "العلوم" هو الحفظ والنقل وشرح النصوص الدينية، واستحالة تطبيق التجربة أو المنطق أو الرياضيات لإثبات صحتها أو خطأها. وبهذا تمكن الدين من مصادرة واحتكار كلمة "علم" ومشتقاتها، وجعلها مقترنة في العقل العربي الإسلامي بكافة فنون الفكر والوعي الإنساني بما فيها العلوم الطبيعية، مصادرة لا رجعة فيها، واحتكار لا يمكن الفكاك منه.
من النقاش الدائر في المجال العربي، يمكن استنتاج نظرة عامة تشير إلى أن النقاش بين "العلم" كما هو معرّف بكلمة
science  الإنكليزية و"العلم" كما هو معرّف في الخطاب الديني ليس إلا نقاش "الطرشان"، وذلك لأن الفريقين المتحاورين يستخدمان مفهومين يكادا أن يكونا متناقضين لمعنى كلمة "علم". ولعل أن من أشد المظاهر سلبية في صدام المفاهيم هذا يتجلى في ظاهرة الإعجاز العلمي الإسلامي.
فكرت طويلا ولم أستهدي إلى كلمة عربية توازي كلمة
Science الإنكليزية، وقد فكرت أن كلمة "فلسفة" القديمة قد تفي بالغرض، إلا أنه ليس لهذه الكلمة جذر عربي، وهي الآن أكثر خصوصية مما كانت تعنيه في الماضي. وفي رأيي المتواضع أن كلمة مركبة مثل "علوم طبيعية" لا تفي بالغرض وذلك ببساطة بسبب وجود كلمة "علوم". وكم أتمنى لو تمكن الحداثيون من اللغويين العرب من اشتقاق كلمة مقبولة تفصل في معناها فصلا كاملا وواضحا بين العلم الطبيعي التجريبي و"العلم" الغيبي الخرافي.

عودة لقائمة المحتويات

القسم التالي

القسم السابق


مراجع:

هناك تواز أو تشابه بين موقف الصامتين والموافقين من علماء المسلمين على ظاهرة الإعجازيين مع الموقف الإسلامي من الاحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا تتارض في ظاهرها مع العقيدة الإسلامية. وقد استخدمت هذه الأحاديث في ميدان الترغيب والترهيب بكثرة من باب أنها تنفع الإسلام ولا تضره.

عودة للأعلى

ليست هناك تعليقات:

Links

    لا يعني إدراج الروابط التالية أن أبو لهب يوافق على كل ما يرد فيها وعلى وجه التخصيص , فنحن نرفض وندين أي مقالات معادية للقضية الفلسطينية أو القضية العربية